سورة هود - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


قلت: {بعداً}: منصوب على المصدر، أي: أبعَدوا بعداً.
يقول الحق جل جلاله: {وقيل} أي: قال الله: {يا ارضُ ابلعي ماءك} الذي خرج منك، فانفتحت أفواهاً، فرجع إليها ما خرج منها، {ويا سماءُ أَقلعي}: أمسكي عن الإمطار. رُوي أنها أمطرت من كل موضع. فبقي ما نزل منها بحاراً على وجه الأرض.
قال البيضاوي: نوديا بما ينادى به أولو العلم، وأُمرا بما يؤمنون به، تمثيلاً لكمال قدرته، وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، بالأمر المطاع، الذي يأمر المنقاد لحكمه، المبادر إلى امتثال أمره، مهابة من عظمته، وخشية من أليم عقابه. والبلع: النشف، والإقلاع: الإمساك. اهـ.
{وغيض الماءُ}؛ نقص ولم ينشف ما خرج منها، {وقُضِيَ الأمرُ}: وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين، وإنجاء المؤمنين، {واستوتْ}: استقرت السفينة {على الجُودي}؛ جبل بالموصل. وقيل: بالشام. وتقدم أنه نزل يوم عاشوراء، فصامه شكراً. وبقي ستة أشهر على الماء. {وقيل بُعداً للقوم الظالمين}؛ هلاكاً لهم. يقال بعد، إذا بعد بعداً بعيداً، بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك. وخص بدعاء السوء.
والآية كما ترى في غاية الفصاحة؛ لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه، مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره؛ للعلم به، فإن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار. قاله البيضاوي.
فإن قلت: قد عم الغرق الدنيا كلها، مع أن دعوة نوح عليه السلام لم تكن عامة، وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]؟ فالجواب: أن الكفر قد كان عم الموجودين في ذلك الزمان، مع تمكنهم من النظر والاستدلال على الصانع وتوحيده، ومع قدرتهم على الإتيان إلى نوح في أمر الشرائع، فقصروا في الجهتين. وأيضاً: لم تكن الأرض كلها معمورة بالناس، فكل من كان موجوداً سمع بدعوة نوح فجحدها. والله تعالى أعلم. وانظر ابن عطية عند قوله: {واصنعِ الفلك}. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا توالت على القلب الواردات الإلهية السماوية، والأحوال النفسانية المزعجة، خيف على العقل الاختطاف والاصطدام، فقيل: يا أرض النفس ابلعي ماءك واسكني، ويا سماء الواردات أقلعي، وغيض الماء، أي: نقص هيجان الحال، وقضي الأمر بالاعتدال، واستوت سفينة الفكرة على جبل العقل، فحاز الشرف والكمال؛ لكونه برزخاً بين بحرين، يعطي الحقيقة حقها والشريعة حقها، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوفى كل ذي قسط قسطه. وقيل: بُعداً لمن تخلف عن هذا المقام، وظلم نفسه بإلقائها في سجن الهوى وغيهب الظلام. والله تعالى أعلم.


قلت: {وإنَّ وعدك}: عطف على {إن ابني}. و{أنت أحكم}: حال من الكاف. و{إني أعظك}: مفعول من أجله، أي: كراهية أن تكون من الجاهلين.
يقول الحق جل جلاله: {ونادى نوحٌ ربَّه} بعد تعميم الغرق، أي: أراد النداء بدليل عطف قوله: {فقال ربِّ إنَّ ابني من أهلي}، فإنه هو النداء، أو تكون فصيحة، جواباً عن مقدر، كأن قائلاً قال: ماذا في ندائه؟ فقال: إن ابني من أهلي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي، {وإن وعَدَكَ الحقُّ} لا يتطرقه الخلف، فما باله غرِق؟ {وأنت أحكمُ الحاكمين}؛ لأنك أعلمهم وأعدلهم، فلم أعرف وجه حكمك عليه بالغرق. أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم، فلم أفهم حكمة غرقه.
{قال} تعالى: {يا نوح إنه ليس من أهلك}؛ لأنه خالفك في الدين، ولا ولاية بين الكافر والمؤمن، {إنه عملٌ غير صالح} أي: ذو عمل فاسد. جعل ذاته نفس العمل؛ مبالغةً. وقرأ الكسائي ويعقوب: {عَمِلَ} بلفظ الماضي. أي: عمل عملاً فاسداً. استحق به البعد عنك. أو: إنه أي سؤالك عملٌ غير صالح. ويقوي هذا قراءة ابن مسعود: {إنه عمل غير صالح} أن تسألني ما ليس لك به علم، وقراءة الجماعة: {فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ} أصواب هو أم لا، حتى تقف على كنهه. وإنما سمي نداءه سؤالاً؛ لتضمنه معنى السؤال، بذكر الوعد واستنجازه واستفسار المانع.
ثم وعظه بقوله: {إني أعظُكَ أن تكون من الجاهلين} أي: إني أعظك؛ كراهة أن تكون من الجاهلين الذين يسألون ما لا يوافق القدر. وقد استثنيته بقولي: {إلا من سبق عليه القول}. وليس فيه وصفه بالجهل، بل وعظه لئلا يقع فيه، والحامل له على السؤال، مع أنه استثنى له؛ غلبة الشفقة على الولد؛ مع كونه لم يتحقق أنه ممن سبق عليه القول.
{قال} نوح: يا {رب إني أعوذُ بك أن أسألكَ} في المستقبل {ما ليس لي به علمٌ}؛ ما لا علم لي بصحته. {وإلا تغفرْ لي} ما فرط مني من السؤال، {وترحمني} بالتوبة، تفضلاً وإحساناً، وبالتوفيق والعصمة في المستقبل، {أَكُن مِّنَ الخاسرين} بسوء أدبي معك.
الإشارة: قال الورتجبي: أدَّب نبيه نوحاً عليه السلام بأن لا يسأل إلا ما وافق القدر. كل دعاء لم يوافق مراده تعالى في سابق علمه لم يؤثر في مراد الداعي. وقوله: {إنه عمل غير صالح} أي: ليس عمله على موافقة السنة، ثم وعظه، وقال: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين}، الجاهل: من جهل قدر الله، أي: أنزهك عن سوء الأدب في السؤال، على غير قاعدة مرادك. اهـ. وقال في الحكم: (ليس الشأن وجوب الطلب، وإنما الشأن أن ترزق حسن الأدب ).


قلت: {تلك}: مبتدأ. و {من أنباء}: خبر. و {نُوحيها}: خبر ثان، و {ما كنت تعلمها}: خبر ثالث، أو حال من الهاء، أي: حال كونها مجهولة عندك وعند قومك.
يقول الحق جل جلاله: {قيل يا نوحُ اهبط} من السفينة إلى عمارة الأرض {بسلامٍ منّا}، أي: متلبساً بسلامة من المكاره، من جهة حفظنا ورعايتنا. أو مسلماً عليك. {وبركات عليك}؛ وزيادات في نسلك حتى تصير آدماً ثانياً، فالبركة هي: الخير النامي. أو: مباركاً عليك، {وعلى أمم ممن معكَ} أي: هم الذين معك، أو ناشئة ممن معك، فقد تشعبت الأمم ممن معه من ذريته. والمراد: المؤمنون، بدليل قوله: {وأمم سنُمتعهم} في الدنيا، ونوسع عليهم فيها، {ثم يمسُّهُم منا عذابٌ أليم} في الآخرة، وهم الكفار ممن نشأ من ذريته. وقيل: هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب: ما نزل بهم في الدنيا.
{تلك} القصة، أو خبر نوح عليه السلام، هي: {من أنباءِ الغيب} أي: بعض أخبار الغيب {نُوحيها إليك}؛ لا طريق إلى معرفتها إلا الوحي، {ما كنتَ تعلمها أنتَ ولا قومُكَ من قبل هذا} الوقت لولا إيحاؤنا إليك بها، فهي من دلائل نبوتك؛ لأنك لم تغب عنهم، ولم تخالط غيرهم، فتعين أنه من عند الله. فإن كذبوك {فاصبرْ إن العاقبة للمتقين} وأنت أعظمهم. فالعاقبة لك في الدنيا بالنصر والعز، وفي الآخرة بالرفيق الأعلى. أو فاصبر على مشاق التبليغ مع إذاية قومك، كما صبر نوح عليه السلام. إن العاقبة للمتقين بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
الإشارة: يقال للمريد إذا تمكن من الفناء، وارتفعت فكرته عن عالم الأكوان: اهبط إلى مقام البقاء؛ لتقوم بآداب العبودية بعد مشاهدة عظمة الربوبية، انزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا بقصد متابعة الشهوة والمتعة. اهبط بسلام منا؛ أي: بسلامة من الرجوع أو الشقاء. وبركات عليك وعلى من تبعك. ولذلك قيل: من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء. وأمم قد ضلوا عن متابعتك، سنمتعهم في الدنيا بمتابعة الهوى، ثم يمسهم منا عذاب الحجاب وسوء الحساب. تلك الواردات الإلهيةُ نُوحيها إليك، ما كنت تعلمها أيها العارف من قبل هذا، أنت ولا من تبعك، فاصبر؛ فإن الجمال مقرون بالجلال، والعاقبة للمتقين. والله تعالى أعلم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10